علم الآثار
الدراسة العلمية لمخلّفات الحضارة الإنسانية الماضية
ويتحرى الأثريون حياة الشعوب القديمة ، وذلك بدراسة مخلفاتها . وتشمل تلك المخلفات أشياء مثل : المباني والقطع الفنية ، والأدوات والعظام والخزف . وقد يقوم علماء الآثار باكتشافات مثيرة، مثل اكتشاف قبر يغص بالحلي الذهبية ، أو بقايا معبد فخم في وسط الأدغال . ومع ذلك فإن اكتشاف قليل من الأدوات الحجرية أو بذور من الحبوب المتفحمة، ربما يزيح الستار بشكل أفضل عن جوانب كثيرة من حياة تلك الشعوب . واكتشاف أنواع الأكل التي كان النّاس يتناولونها في الأزمنة الغابرة ، يجعلنا ندرك أوجه الشبه بين حياة أولئك القوم وحياتنا الحالية . وما يكتشفه عالم الآثار ، بدءًا من الصروح الكبيرة وانتهاء بالحبوب ، يسهم في رسم صورة عن معالم الحياة في المجتمعات القديمة .
إن البحث الأثري هو السبيل الوحيد المساعد على استنطاق أوجه الحياة في المجتمعات التي وُجدت قبل اختراع الكتابة منذ خمسة آلاف عام تقريبًا . كما أن البحث الآثاري نفسه يشكِّل رافدًا مهمًا في إغناء معلوماتنا عن المجتمعات القديمة التي تركت سجلات مكتوبة .
ويُعدُّ علم الآثار في القارة الأمريكية ، فرعًا من الأنثروبولوجيا ( علم الإنسان ) ؛ وهي دراسة الجنس البشري وتراثه الفكري والمادي . ويرى علماء الآثار في أوروبا أن عملهم هذا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بميدان التاريخ ، غير أن علم الآثار يختلف عن علم التاريخ من جهة أن المؤرخين يدرسون، بصورة رئيسية مسيرة الشعوب استنادًا إلى السجلات المكتوبة .
يتطلع علماء الآثار إلى معرفة الكيفية التي تطورت بها الحضارات ، وإلى معرفة المكان والزمان اللذين حدث فيهما هذا التطور . وكذلك يبحث هؤلاء شأنهم شأن دارسي العلوم الاجتماعية عن أسباب التغيرات الأساسية التي جعلت الناس في العالم القديم، يتوقفون عن الصيد مثلاً ويتحولون إلى الزراعة . ويطوِّر آثاريون آخرون نظريات تتعلق بالأسباب التي حدت بالناس لبناء المدن وإقامة الطرق التجارية . وبالإضافة إلى ذلك يبحث بعض علماء الآثار عن الأسباب الكامنة وراء سقوط المدنيات السابقة ، كحضارة المايا في أمريكا الوسطى، وحضارة الرومان في أوروبا .
ماذا يدرس علماء الآثار ؟
يدرس الأثريون أي دليل يمكن أن يساعدهم على فهم حياة الناس الذين عاشوا في الأزمنة القديمة. وتتراوح الأدلة الأثرية بين بقايا مدينة كبيرة ، وقلة من فلَق ( قطع ) الحجارة ، التي تركها أحد الذين كانوا يصنعون الأدوات الحجرية منذ أزمان بعيدة .
إن الأنواع الثلاثة الأساسية للدليل الأثري هي : 1- المعثورات المصنوعة 2- الظواهر 3- المعثورات الطبيعية . أما بالنسبة إلى المعثورات المصنوعة ، فهي تلك المواد التي صنعها الإنسان ويمكن أن تنقل من مكان إلى آخر دون إحداث تغيير على مظهرها . وهي تشتمل على مواد مثل النّصال والقدور والخرز . كما يمكن أن تشتمل بالنسبة إلى مجتمع ذي تاريخ مكتوب على الألواح الطينية وعلى سجلات أخرى مكتوبة . أما الظواهر فتتألف بصورة رئيسية ، من البيوت والمقابر وقنوات الري ، ومنشآت عديدة أخرى ، قامت ببنائها الشعوب القديمة . وخلافًا للأدوات ، فإنه لا يمكن فصل الظواهر عن محيطها ، دون أن يحدث تغيير في شكلها . أما المعثورات الطبيعية ، فهي المواد الطبيعية التي توجد جنبًا إلى جنب مع الأدوات والظواهر . وتكشف هذه المعثورات طريقة تفاعل الناس في العصور القديمة مع محيطهم . وتشتمل المعثورات الطبيعية على سبيل المثال على البذور وعظام الحيوانات .
ويُطلق على المكان الذي يضم الدليل الأثري اسم الموقع الأثري . ولفهم سلوك الناس الذين شغلوا موقعًا أثريًا ، لابدّ من دراسة العلاقات بين الأدوات المصنوعة والظواهر والمعثورات الطبيعية، التي اكتشفت في ذلك الموقع الأثري . فمثلاً اكتشاف رؤوس رماح حجرية قرب عظام نوع من الجواميس المنقرضة في موقع ما في ولاية نيو مكسيكو ، يبين أن تلك الجماعات البشرية المبكرة ، كانت تصطاد الجواميس في تلك المنطقة .
كيف يجمع علماء الآثار المعلومات ؟
يستخدم علماء الآثار تقنيات ووسائل خاصة لجمع الدليل الآثاري جمعًا دقيقًا ومنهجيًا ، ويحتفظون بسجلات تفصيلية عن المعثورات الأثرية ، لأن التَّنقيب الآثاري المفصل يتلف البقايا الأثرية موضع البحث .
تحديد الموقع
تحديد الموقع الأثري هو الخطوة الأولى ، التي يجب على عالم الآثار القيام بها . وربما تكون المواقع الأثرية موجودة فوق سطح الأرض ، كما قد تكون تحت سطح الأرض ، أو تحت الماء . وتشتمل المواقع الموجودة تحت الماء على سفن غارقة ، أو مدن بأكملها غمرتها المياه نتيجة تغيرات طرأت على سطح الأرض أو على مستوى الماء .
وقد يتم تحديد بعض المواقع الأثرية بسهولة ، لأنها تُشاهَد بالعين المجردة ، أو يمكن تعقب أثرها من خلال الأوصاف التي وردت عنها في القصص القديمة ، أو السجلات التاريخية الأخرى . وتشمل مثل هذه المواقع الأهرامات في مصر ، ومدينة أثينا القديمة في اليونان . وهناك مواقع أثرية ، أقل وضوحًا اكتشفها بمحض الصدفة أناس غير آثاريين ، فمثلاً اكتشف أربعة أطفال سنة 1940م كهف لاسو ، في الجنوب الغربي من فرنسا ، وذلك أثناء بحثهم عن كلبهم . ووُجدت في هذا الكهف رسوم جدارية تعود إلى ما قبل التاريخ .
وقام علماء الآثار بالعديد من الاكتشافات المهمة ، وبحثوا دون كلل وعلى امتداد سنوات طويلة ، عن موقع معين أو نوع ما من المواقع . بهذه الطريقة اكتشف عالم الآثار الإنجليزي هوارد كارتر ، في عام 1922م القبر المليء بالكنوز الذي يخص الملك المصري القديم توت عنخ آمون .
يستخدم علماء الآثار مناهج علمية للعثور على المواقع الأثرية . وكانت الطريقة التقليدية لاكتشاف جميع المواقع الأثرية في منطقة ما ، تتم من خلال المسح سيرًا على الأقدام . وكان الآثاريون عندما يستخدمون هذه الطريقة يتباعد بعضهم عن بعض بمسافات معينة ، ويسيرون في اتجاهات مرسومة . وكان كل فرد يبحث عن الدليل الآثاري ، وهو سائر إلى الأمام . ويستخدم الآثاريون هذه الطريقة عندما يرغبون في تمييز المنطقة ، التي تضم مواقع أثرية عن تلك التي لا يوجد فيها مثل هذه المواقع . فمثلاً يمكنهم استخدام هذه الطريقة ، للتأكد من أن المواقع الأثرية لمنطقة معينة موجودة في قمم التلال وليس في الوديان .
ويتَّبع علماء الآثار طرقًا علمية للمساعدة على كشف المواقع الأثرية الموجودة تحت السطح . فالتصوير الجوي ، مثلاً ، يُظهر اختلافات في نمو النباتات التي تشير بدورها إلى وجود دليل آثاري . فالنباتات الأطول في بقعة من الحقل قد تكون مزروعة فوق قبر قديم ، أو فوق قناة للري . أما النباتات الأقصر الموجودة في بقعة أخرى من الحقل ، فقد تكون مزروعة في أرض ضحلة فوق عمارة قديمة أو طريق . وبالإضافة إلى ذلك تستخدم كواشف معدنية ، لمعرفة ما إذا كانت هناك أدوات معدنية ، سبق أن دُفنت في الأرض على عمق لا يزيد على 180سم .
مسح الموقع
أول مرحلة من مراحل الدراسة التي يقوم بها الأثريون لموقع ما ، هي وصف هذا الموقع . فيسجل هؤلاء ملاحظات تفصيلية حول مكان الموقع ، ونوع الدليل الآثاري الشاخص على سطحه . كما يلتقطون صورًا لهذا الموقع .
ويقوم الأثريون برسم خرائط لمعظم المواقع الأثرية التي يتم اكتشافها . ويعتمد نوع الخريطة المرسومة على أهمية الموقع وأهداف الدراسة ومقدار الوقت والمال المتوافرين . ويَعْمد هؤلاء في بعض الأحيان إلى رسم خرائط مبسطة بعد أن تتم عملية قياس الأبعاد ، سواء بالخطوات أو باستخدام شريط القياس . وتستخدم في حالات أخرى ، أدوات خاصة لمسح الموقع الأثري بعناية ، ولرسم خرائط تفصيلية له .
وبعد رسم الخريطة يجمع العلماء بعض الملتقطات الموجودة على سطح الموقع الأثري . ثم يقومون بتقسيم السطح إلى مربعات صغيرة ، ودراسة كل مربع على حدة . وبعد ذلك يسجلون على الخريطة المواضع التي وجدت فيها الأدوات . ويمكن أن تُقدِّم لنا أماكن الملتقَطات السطحية معلومات عن زمان وكيفية استخدام الموقع .
تنقيب الموقع
ينقب الأثريون بحذر بحثًا عن المواد المدفونة في عملية تدعى بالتنقيب الآثاري ، وتعتمد طريقة التنقيب الآثاري جزئيًا على نوع الموقع . فمثلاً يمكن للأثريين الذين يعملون في كهف ، أن يُقسِّموا أرضية الكهف والبقعة الموجودة أمامه إلى وحدات على شكل مربعات صغيرة . ومن ثم ينقبون في كل وحدة على انفراد . وقد يحفر الأثريون ، الذين يعملون في رصيف معبد، خندقًا أمام الرصيف ، ومن ثم يمدون الخندق نحو الأرض المجاورة للرصيف . وفي المواقع الكبيرة يمكن حصر التنقيب في أجزاء معينة من الموقع ، كما أن هناك اعتبارات أخرى تقرر في الأغلب منهج التنقيب الآثاري ، مثل المناخ وتربة الموقع .
وتتباين الأدوات التي تستخدم في الحفريات بين الجرَّارات والآليات الثقيلة الأخرى والمحافير الصغيرة والفُرش . وفي بعض الحالات يقوم الآثاري بغربلة التربة بغربال سلك للحصول على المعثورات الصغيرة. وفي حالات أخرى يقوم بتحليل التربة في المختبر ، لاكتشاف البذور وحبوب اللقاح أو أية تحولات كيميائية ، نتجت عن المخلفات البشرية .
العمل تحت الماء
يستخدم الأثريون الذين يعملون تحت الماء طرقًا عديدة ، تم اقتباسها من علم الآثار الأرضي. وقد يكشف التصوير الجوي ، فوق مياه صافية المعالم الرئيسية لموانئ أو مدن مغمورة . ويساعد استخدام المسح السوناري ، الذي يعتمد على الموجات الصوتية على كشف المواد المغمورة تحت الماء . ويستخدم الغواصون ، أيضًا أجهزة كشف معدنية خاصة بكشف المواد المعدنية . ويمكن رسم الخرائط التصويرية للمواقع من الغواصات ، أو من قِبل الغواصين الذين يحملون آلات للتصوير تحت الماء . ويعمل الآثاريون في مواقع تحت الماء ، وهم داخل حجرات عازلة للضغط ، وصالحة للعمل تحت الماء . وتُستخدم البالونات لرفع المعثورات الكبيرة إلى سطح الأرض بغية دراستها بصورة أوسع ودقة أكثر .
تسجيل الدليل الأثري والاحتفاظ به
يقوم علماء الآثار بوصف وتصوير وإحصاء المعثورات التي يجدونها . ثم يقومون بتصنيفها إلى مجموعات وفقًا لأنواعها ومواقعها . فمثلاً يُحتفظ بالقطع الفخارية ، التي تسمى أحيانًا الفِلَق أو الكِسَر الخزفية، من كل وحدة من وحدات التنقيب ، ومن كل طبقة فيها ، في مجموعات منفصلة ، ثم تنقل إلى المختبر الميداني ، لتنظف وتدوَّن عليها المعلومات الخاصة بالوحدة والطبقة التي جاءت منها .
ويجب أن تبذل عناية فائقة ، في المختبر الميداني ، للمحافظة على الأشياء المصنوعة من مواد كالمعدن والخشب . فمثلاً يجب إزالة الصدأ عن الأشياء المعدنية دون أن يؤدي ذلك إلى أي تخريب في سطحها . أما المواد الخشبية المشبعة بالماء ، فقد تتشقق أو تفقد شكلها عندما تتعرض للهواء ، ولذلك يجب الاحتفاظ بها رطبة إلى حين يتمكن الاختصاصيون ، الذين يطلق عليهم المرممون ، من صيانتها .